الاثنين، 10 ديسمبر 2012

    هكذا تبدو حلب ....

عشرة أيام في مشفى ميداني في حلب، تحت القصف المتواصل، وبين الجثث والاشلاء، عشرات الجرحى يوميا، شهداء بين ساعة وأخرى، منهم من هو معروف، وآخرون يلفون في خرقة خضراء او بيضاء، يوضعون قرب الباب ليكونوا في جو بارد، ينتظرون من يأتي ليسأل عن مفقود، "خرج ولم يعد"، ومن لم يوافه حظه سريعا، فإنه يودع في برادات الطبابة الشرعية ريثما يأتي من يتعرف عليه.



لا ماء، الماء يضخ من الآبار، لا كهرباء، الكهرباء تولد من المولدات التي تعمل "بالمازوت"، لا اتصالات نهائيا، لا داخلة ولا خارجة، ولا انترنت، حتى الانترنت "الفضائي" في المشفى قرر "مؤازرة" الاتصالات "المضربة" وامتنع عن العمل بشكل منتظم، هذا عندما تكون المولدة الكهربائية تعمل، في حال توفر الوقود.



في الايام الثلاثة الاخيرة، لا وقود، مو بس "بالشحادة" كون الجميع ملزمين "فرضيا" بتأمين وقود للمشفى الذي يعالج اصابات المقاتلين والمدنيين على السواء، حتى شراء لا يوجد، ويترتب على غياب المازوت، انقطاع الكهرباء، والماء -كون المضخات تعمل على الكهرباء-، والانترنت، وتوقف غرف العمليات التي لا تهدأ، من التاسعة صباحا حتى منتصف الليل، واحيانا بعده، وفي كثير من الاحيان، تجد مريضين او ثلاثة في غرفة العمليات الواحدة.



في حالة "الشح" التي وصفتها، بدأ النقص الحاد في الخبز، الناس يصطفون بالآلاف امام المخابز للحصول وعلى احتياجهم اليومي من الخبز، بدأت ظاهرة خبز "الصاج" بالانتشار الكثيف في الشوارع، وطبعا الخبز على الحطب حصرا، لأن جرة الغاز وصلت لحوالي ٤٠٠٠ ليرة سورية.



كل ما ذكرت، بدأ يتحول الى حالة اعتيادية شبه يومية، لكن ما علق في مخيلتي، هو حادثة قصف  حي بستان القصر في ٣-١٢-٢٠١٢ على ما اذكر، حيث ان التاريخ هناك متوقف، لا احد أسأله عن اليوم الا ويجيبني: والله يا دكتور ما بعرف، يمكن الاثنين يمكن الثلاثاء!



اصبحنا "مصباح" ذلك اليوم "على قولة الحلبية"، دون كهرباء، نزلت الى الاستقبال، كان الدكتور ابو الخير "عمبحيص" امام مدخل المشفى جيئة وذهابا، "اش في دكتور" سألته، "ما في مازوت" كان جوابه باقتضاب، "لا شحادة ولا شرا"، تابع، كان الوضع هادئا، "اذا بتعرف حدا روح دبّر، كل واحد مننا عم يلطش من طرف"، تركته وتوجهت الى احدهم، مع سيارة "ابو حميد"، بعد مفاوضات ومداولات استطعنا ان نؤمن "جالونتين" مازوت، مع "شبه وعد" بتأمين برميل خلال عدة ساعات.



وضعنا "الجالونتين" في السيارة، وعدنا متوجهين للمشفى و"كلنا فخر" بالانجاز الذي استطعنا تحقيقه، وما ان وصلنا، حتى رأيت منظرا لم اره ولا اعتقد انني سأراه في حياتي.



المشفى بدون كهرباء نهائيا، غرفة الاسعاف "تغص" بالجرحى من المدنيين، الشارع امام المشفى ممتلئ بالجرحى الملقين على الارض فوق اسفلت او "زفت" الطريق، السيارات تتجه الى المشفى من كل الجهات، تحمل عشرات الجرحى، الناس بدأت بالتجمهر، نساء يصرخن ويبكين او "يلطمن"، اخريات يبحثن عن اطفالهن بين الجرحى، ومما زاد الطين بلة، توافد عشرات المتبرعين بالدم، رجالا ونساء، شبابا وشيبا، بعد ان صدحت مآذن جوامع حي بستان القصر والكلاسة بالحاجة لمتبرعين، عشرات والله عشرات، ولا كهرباء.



الكادر الطبي وقف عاجزا، الشباب العاملون في المشفى وقفوا يصيحون بالسيارات القادمة للتوجه لمشافي أخرى، وبالمتبرعين الذين بدأوا بخلق ازمة امام المشفى بالوقوف على الرصيف المقابل ريثما يتم ترتيب اكياس سحب الدم، بدأ الناس بالتكبير المختلط بالبكاء، هاجت الجموع وماجت كيوم الحشر، حالة العجز والشلل اصابت الجميع.



بعد ساعتين تقريبا، هدأ الوضع، تم اسعاف من يمكن اسعافه، تم ارسال او تحويل من يمكن تحويله، واستشهد من استشهد، كنت واقفا امام البوابة، جاء شاب في الثلاثينات، اقترب مني وقال بصوت خافت: "دكتور بدي اتبرع بدمي، والله مو طالع بإيدي غير هيك"، جاوبته: "الله يجزاك الخير، والله اليوم ما عاد في مجال، اجانا كتير متبرعين، تفضل بكرة الصبح الساعة عشرة صباحا". لا ادري لماذا احتضن كل من الآخر، انفجر كلانا في البكاء، لم يكن عندنا ما نقوله اكثر من ذلك، ربّت على كتفه وهمست: "الله يقويك، تفضل بكرة الصبح".



هذا ما استطيع ان انقله عن حلب، في الاحياء التي خرجت عن سيطرة النظام، هذا ما رأيت وسمعت وشاهدت، حالة حرب حقيقية بكل معنى الكلمة، لا فرق بين الحياة والموت، لا فرق بين الليل والنهار، تحس انك في كابوس مزعج لا ينتهي، في بقعة على المريخ لا علاقة لها بكوكب الارض، الازمة اشتدت، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل الناس زلزالا شديدا، لسان حالهم يقول: متى نصر الله! فعسى ان يكون قريبا!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق